حاجة العبد إليها أعظم من حاجته إلى الطعام والشراب والنفس بل وإلى الروح التي بين جنبيه .
اعلم أن كل حي سوى الله فهو فقير إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره والمنفعة للحي من جنس النعيم واللذة والمضرة من جنس الألم والعذاب ، فلا بد من أمرين أحدهما هو المطلوب المقصود المحبوب الذي ينتفع به ويتلذذ به والثاني هو المعين الموصل المحصل لذلك المقصود والمانع لحصول المكروه والدافع له بعد وقوعه فهاهنا أربعة أشياء أمر محبوب مطلوب الوجود والثاني أمر مكروه مطلوب العدم والثالث الوسيلة إلى حصول المحبوب والرابع الوسيلة إلى دفع المكروه فهذه الأمور الأربعة ضرورية للعبد بل ولكل حي سوى الله لا يقوم صلاحه إلا بها إذا عرف هذا فالله سبحانه هو المطلوب المعبود المحبوب وحده لا شريك له وهو وحده المعين للعبد على حصول مطلوبه فلا معبود سواه ولا معين على المطلوب غيره وما سواه هو المكروه المطلوب بعده وهو المعين على دفعه فهو سبحانه الجامع للأمور الأربعة دون ما سواه ، وهذا معنى قول العبد إياك نعبد وإياك نستعين فإن هذه العبادة تتضمن المقصود المطلوب على أكمل الوجوه والمستعان هو الذي يستعان به على حصول المطلوب ودفع المكروه فالأول من مقتضى ألوهيته والثاني من مقتضى ربوبيته لأن الإله هو الذي يؤله فيعبد محبة وإنابة وإجلالا وإكراما والرب هو الذي يرب عبده فيعطيه خلقه ثم يهديه إلى جميع أحواله ومصالحه التي بها كماله ويهديه إلى اجتناب المفاسد التي بها فساده وهلاكه وفي القرآن سبعة مواضع تنتظم هذين الأصلين أحدهما قوله تعالى إياك نعبد وإياك نستعين الثاني قوله تعالى عليه توكلت وإليه أنيب الثالث قوله تعالى فاعبده وتوكل عليه الرابع قوله تعالى عليك توكلنا وإليك أنبنا الخامس قوله تعالى وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده السادس قوله عليه توكلت وإليه متاب السابع قوله واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا ومما يقرر هذا أن الله خلق الخلق لعبادته الجامعة إليهم من النظر إليه ولا شيء يعطيهم في الدنيا أحب إليهم من الإيمان به ومحبتهم له ومعرفتهم به وحاجتهم إليه في عبادتهم له وتألههم له كحاجتهم إليه بل أعظم في خلقه وربوبيته لهم ورزقه لهم فإن ذلك هو الغاية المقصودة التي بها سعادتهم وفوزهم وبها ولأجلها يصيرون عاملين متحركين ولا صلاح لهم ولا فلاح ولا نعيم ولا لذة ولا سرور بدون ذلك بحال فمن أعرض عن ذكر ربه فإن له معيشة ضنكا ويحشره يوم القيامة أعمى ولهذا لا يغفر الله لمن يشرك به شيئا ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ولهذا كانت لا إله إلا الله أفضل الحسنات وكان توحيد الإلهية الذي كلمته لا إله إلا الله رأس الأمر فأما توحيد الربوبية الذي أقر به كل المخلوقات فلا يكفي وحده وإن كان لا بد منه وهو حجة على من أنكر توحيد الألوهية فحق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وحقهم عليه إذا فعلوا ذلك أن لا يعذبهم وأن يكرمهم إذا قدموا عليه وهذا كما أنه غاية محبوب العبد ومطلوبه وبه سروره ولذته ونعيمه فهو أيضا محبوب الرب من عبده ومطلوبه الذي يرضى به ويفرح بتوبة عبده إذا رجع إليه وإلى عبوديته وطاعته أعظم من فرح من وجد راحلته التي عليها طعامه وشرابه أرض مهلكة بعد أن فقدها وأيسَ منها وهذا أعظم فرح يكون وكذلك العبد لا فرح له أعظم من فرحه بوجود ربه وأنسه به وطاعته له وإقباله عليه وطمأنينته بذكره وعمارة قلبه بمعرفته والشوق إلى لقائه فليس في الكائنات ما يسكن العبد إليه ويطمئن به ويتنعم بالتوجه إليه إلا الله سبحانه ومن عبد غيره وأحبه وإن حصل له نوع من اللذة والمودة والسكون إليه والفرح والسرور بوجوده ففساده به ومضرته وعطبه أعظم من فساد أكل الطعام المسموم اللذيذ الشهي الذي هو عذاب في مبدئه عذاب في نهايته كما قال قائل
مآرب كانت في الشباب لأهلها ... عذابا فصارت في المشيب عذابا
لو كان فيهما إلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون فإن قوام السموات والأرض والخليقة بأن تؤله الإله الحق فلو كان فيهما إله آخر غير الله لم يكن إلها حقا إذ الإله الحق لا شريك له ولا سمي له ولا مثل له فلو تألهت غيره لفسدت كل الفساد بانتفاء ما به صلاحها إذ صلاحها بتأله الإله الحق كما أنها لا توجد إلا باستنادها إلى الرب الواحد القهار ويستحيل أن تستند في وجودها إلى ربين متكافئين فكذلك يستحيل أن تستند في بقائها وصلاحها إلى إلهين متساويين.
إذا عرفت هذا فاعلم أن حاجة العبد إلى أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا في محبته ولا في خوفه ولا في رجائه ولا في التوكل عليه ولا في العمل له ولا في الحلف به ولا في النذر له ولا في الخضوع له ولا في التذلل والتعظيم والسجود والتقرب أعظم من حاجة الجسد إلى روحه والعين إلى نورها بل ليس لهذه الحاجة نظير تقاس به فإن حقيقة العبد روحه وقلبه ولا صلاح لها إلا بإلهها الذي لا إله إلا هو فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره وهي كادحة إليه كدحا فملاقيته ولا بد لها من لقائه ولا صلاح لها إلا بمحبتها وعبوديتها له ورضاه وإكرامه لها ولو حصل للعبد من اللذات والسرور بغير الله ما حصل لم يدم له ذلك بل ينتقل من نوع إلى نوع ومن شخص إلى شخص ويتنعم بهذا في وقت ثم يعذب ولا بد في وقت آخر وكثيرا ما يكون ذلك الذي يتنعم به ويلتذ به غير منعم له ولا ملذ بل قد يؤذيه اتصاله به ووجوده عنده ويضره ذلك وإنما يحصل له بملابسته من جنس ما يحصل للجرب من لذة الأظفار التي تحكه فهي تدمي الجلد وتخرقه وتزيد في ضرره وهو يؤثر ذلك لما له في حكها من اللذة وهكذا ما يتعذب به القلب من محبة غير الله هو عذاب عليه ومضرة وألم في الحقيقة لا تزيد لذته على لذة حك الجرب والعاقل يوازن بين الأمرين ويؤثر أرجحهما وأنفعهما والله الموفق المعين وله الحجة البالغة كما له النعمة السابغة والمقصود أن إله العبد الذي لا بد له منه في كل حالة وكل دقيقة وكل طرفة عين وهو الإله الحق الذي كل ما سواه باطل والذي أينما كان فهو معه وضرورته وحاجته إليه لا تشبهها ضرورة ولا حاجة بل هي فوق كل ضرورة وأعظم من كل حاجة لهذا قال إمام الحنفاء لا أحب الأفلين والله أعلم . أهــــ
طريق الهجرتين وباب السعادتين ـ ابن القيم الجوزية